باب في آداب الشاعر
أذود القوافي عني ذياداً ... ذياد غلام جريء جرادا
فلما كثرن وعنينه ... تخير منهن شتى جيادا
فأعزل مرجانها جانباً ... وآخذ من درها المستجادا
هكذا في أكثر النسخ، وفي بعضها " حراد " بالحاء مكسورة غير معجمة، و " شتى جيادا " بالشين معجمة مفتوحة غير منونة التاء.
فإذا كان أشعر الشعراء يصنع هذا ويحكيه عن نفسه، فكيف ينبغي لغيره أن يصنع؟ وزعم ابن الكلبي أنه امرؤ القيس بن بكر بن امرئ القيس بن الحارث بن معاوية الكندي، وروي " سفي " في موضع " جريء " والسفي: السفيه والخفيف أيضاً، وإليه يرجع اشتقاقه، وزعم غير ابن الكلبي أن الأبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي.
ويقال: إن أبا نواس كان يفعل هذا الفعل؛ فينفي الدني ويبقي الجيد.
وليلتمس له من الكلام ما سهل، ومن القصد ما عدل، ومن المعنى ما كان واضحاً جلياً يعرف بدياً، فقد قال بعض المتقدمين: شر الشعر ما سئل عن معناه، وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكك، أخذ في ذلك بمذهب زهير، وأوس، وطفيل.
ولا يجوز للشاعر كما يجوز لغيره أن يكون معجباً بنفسه، مثنياً على شعره، وإن كان جيداً في ذاته، حسناً عند سماعه، فكيف إن كان دون ما يظن؟ كقوم أفردوا لذلك أنفسهم، وأفنوا فيه أعمارهم وما يحصلون على طائل، وقد قال الله عز وجل: " فلا تزكوا أنفسكم " اللهم إلا أن يريد الشاعر ترغيب الممدوح أو ترهيبه فيثني على نفسه، ويذكر فضل قصيدته؛ فقد جعلوه مجازاً مسامحاً فيه: كالذي يعرض لكثير من الشعراء في أشعارهم من مدح قصائدهم، على أن أبا تمام يقول:
ويسيء بالإحسان ظناً لا كمن ... يأتيك وهو بشعره مفتون
وإن كان أوصف الناس لقصيده، وأكثرهم ولوعاً بذلك، وهذا ما دام شعراً كان محمولاً على ما قدمناه، وإنما المكروه المعيب أن يكون ذلك منثوراً أو تأليفاً مسطوراً: كالذي فعل الناشئ أبو العباس في أشياء من شعره ذكرها في كتابه الموسوم بتفضيل الشعر؛ فشكرها، ونوه بها، ونبه عليها، وفضلها على أشعار الفحول: مثل جرير وغيره، منها قول جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
وزعم بعد إقامة ما حسبه برهاناً أن قوله:
لا شيء أعجب من عينيك؛ إنهما ... لا يضعفان القوى إلا إذا ضعفا
خير منه، وأسلم من الاعتراض، وأكثر اختصاراً.
ويجب على الشاعر أن يتواضع لمن دونه، ويعرف حق من فوقه من الشعراء؛ فإن امرأ القيس وكان شديد الظنة في شعره، كثير المنازعة لأهله، مدلاً فيه بنفسه، واثقاً بقدرته لقي التوأم اليشكري، واسمه الحارث بن قتادة، فقال له: إن كنت شاعراً كما تقول فملط لي أنصاف ما أقول فأجزها، قال: نعم، فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقاً هب وهناً
فقال التوأم:
كنار مجوس تستعر استعاراً
فقال امرؤ القيس:
أرقت له ونام أبو شريح
فقال التوأم:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
فقال امرؤ القيس:
كأن هزيمه بوراء غيب
فقال التوأم:
عشار وإله لاقت عشارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أن علا كنفي أضاخ
فقال التوأم:
وهت أعجاز ريقه فحارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يترك بذات السر ظبياً
وقال التوأم:
ولم يترك بجهلتها حمارا
فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك الحرس أي: العصر من يماتنه أي: يقاومه ويطاوله آلى ألا ينازع الشعر أحداً آخر الدهر، وروى ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء، ولو نظر بين الكلامين لوجد التوأم أشعر في شعرهما هذا؛ لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما أراد، والتوأم محكوم عليه بأول البيت، مضطر في القافية التي عليها مدارهما جميعاً، ومن ههنا والله أعلم عرف امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف، ونازع أيضاً علقمة بن عبدة فكان من غلبة علقمة عليه ما كان..
وأما جرير فهجاه شاعر يقال له: البردخت، فقال: ما اسمه؟ قيل له: البردخت، فقال: وما معنى البردخت؟ قالوا له: الفارغ، فقال: إذاً والله لا أشغله بنفسي أبداً، وسالمه، هذا وهو جرير الذي غلب شياطين الشعراء، وسكن شقاشق الفحول..
وأما عقبة بن رؤبة بن العجاج فإنه أنشد عقبة بن سلم بحضرة بشار أرجوزة، فقال: كيف ترى يا أبا معاذ؟ فأثنى بشار كما يجب لمثله أن يفعل، وأظهر الاستحسان، فلم يعرف له عقبة حقه، ولا شكر له فعله، بل قال له: هذا طراز لا تحسنه، فقال له بشار: ألمثلي يقال هذا الكلام؟ أنا والله أرجز منك ومن أبيك ومن جدك، ثم غدا على عقبة بن سلم بأرجوزته التي أولها:
يا طلل الحي بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي
فضح بها ابن رؤبة فضيحة ظاهرة كان غنياً عنها..
وكان في البحتري إعجاب شديد، إذ أنشد يقول: ما لكم لا تعجبون؟ أما حسن ما تسمعون؟ فأنشد المتوكل يوماً قصيدته التي أولها:
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم؟
وأبو العباس الصيمري حاضر، فلما رأى إعجابه قام حذاءه فقال:
من أي سلح تلتقم؟ ... وبأي كف تلتطم؟
ذقن الوليد البحتري ... أبي عبادة في الرحم
فولى البحتري وهو غضبان، فقال: وعلمت أنك تنهزم فضحك المتوكل حتى فحص برجليه، وأعطى الصيمري جائزة سنية.